سيد النصر.. وكل انتصاراتنا الآتية
موقع المقاومة الإسلامية
الليل ينثر ندفه في كل مكان، وبياض الثلج يأبى إلاّ أن يرسل بريقه عبر العتمة السوداء.
شهر شباط في سهل البقاع يهدهده ثقل العواصف الثلجية، التي رمت بثقلها في كل الأماكن، سمعت أبو فادي تكبيراً وتهليلاً من مذياع القرية، أخفض صوت التلفاز، شقّ النافذة ليتأكد من أن الصوت موجوداً، وأنه لا يتخيّل الأمر، فتبين أن هناك أصواتاً كثيرة، وجلبة كبيرة في الخارج، وبدأت قراءة القرآن تتسلّل من بين تلك الأصوات.
كانت كل العائلة قد انتبهت لهذا الأمر، وأخذ الجميع يتساءل: “ما الذي حدث؟ ماذا جرى؟ لم يسمع للناس دوي كدوي النحل؟”
دخل الإبن الأكبر فادي وعلى وجهه علامات مبهمة وقد اشتعل وجهه احمراراً، أهي علامات الصقيع، أم الإنفعال، بادره الأب مستفسراً: “هل عرفت ما الخبر؟ ما الذي يجري في الخارج؟”
فرك الشاب يديه علامة التوتر الكبير وقال: “يقولون أن السيد عباس قد استشهد”
وقع الخبر كالصاعقة على آذان الحاضرين، وكأن الصقيع قد تسلل إلى داخل المنزل فأحدث موجة من الجمود للحظات حتى استوعب المستمعون هذا الخبر، وتساءل الأب : “السيد عباس الموسوي؟!”
فأكدّ له الإبن: “نعم.. السيد عباس الموسوي، هذا ما سمعته، كان عائداً من احتفال في الجنوب عندما استهدف الطيران المروحي الصهيوني سيارته”
حوقل الأب وتبعه كل من في المنزل وهم ينظرون إلى بعضهم البعض في ذهول واستهجان، متسائلين: “هل يعقل هذا؟ !” ثم ما لبثوا أن تدثّروا بمعاطفهم وخرجوا إلى سطح المنزل ليشاركوا في التهليل والتكبير لساعة متأخرة من تلك الليلة المفجعة.
بالكاد غفت العيون في تلك الليلة، واستيقظ الصباح على جلبة سيارات متأهبة للمسير.
ألقت الشمس حبال نورها فوق الوهاد والمناطق التي غشيها البياض من كل جانب، فكانت تسطع تحت بريقها بما يزيغ العيون الدامعة، وانطلقت سيارة ابو فادي مع تلك السيارت المندفعة باتجاه الحدث، حتى صلت المشفى في بيروت حيث سجّيت الجثامين الطاهرة، وكان الناس قد تجمهروا أمام المشفى بأعداد ضخمة، وعيون مذهولة، بين مصدّق وغير مصدّق، بين عابس ومتألم، إلى أن رأووا بأم العين النعوش الثلاثة ترفع فوق الأكتاف لتنقل إلى سيارات الإسعاف التي كانت تنتظر في الخارج.
نظر أبو فادي إلى رجل يقف إلى جانبه، وأشار إلى النعوش سائلاً بلهفة: “لمن النعشين الآخرين؟”
لم يتردّد الرجل في الإجابة: “زوجته أم ياسر وابنه الصغير حسين كانا معه في السيارة”
“لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” وكأن لسانه تلعثم وما عاد يعرف النطق إلا بهذه العبارة.
سار الجميع في موكب مهيب وراء سيارات الإسعاف التي انطلق منها صوت قراءة للقرآن يصدع القلوب، كانت السيارات تمتد في صف طويل، ترى بدايته ولا ترى له نهاية، في زحف هائل نحو البقاع حيث ستقام مراسم العزاء.
في البقاع من لم يستطع النزول إلى بيروت، سبق الموكب إلى بعلبك حيث امتلأت مرجة رأس العين، ومحيط مسجد الإمام علي (عليه السلام) بالمعزين والمشاركين، ولسان حال الناس يحوقل ويتساءل: “كيف يحدث ذلك؟” “استشهد القائد.. ما ستكون حال المقاومة بعد ذلك؟”
حزن ووجوم اكتسحا الأمكنة، وانسلّت العبارات بين الناس كوخز الأبر: “إنها ضربة موجعة للمقاومة، أن يُغتال الرأس؟ ما الذي سيحدث؟ إلى أين تسير الأمور؟”
دوّامة من الأسئلة كانت تسير بين الناس، ولا احد يستطيع أن يتكهّن بالآتي، ثمة أمور اكبر من الجميع تحدث، والكل في دائرة الترقّب والإنتظار، وهذا لا يمنع من أن تكون صورة القائد ماثلة في الأذهان، فهو لم يكن شخصية عادية أبداً.
هذا الحدث الجلل شغل الناس، فكان الواحد يهمس في أذن الآخر، “كان كثيراً ما يتردّد على الجبهة”.
دغدغ هذا الكلام قلب أحد المجاهدين الحاضرين، إذ سالت دمعته وهو يقول: “أنا حظيت بشرف إطعامه لي بيده، كان يحب أن يفعل ذلك، يجلس معنا على المائدة المتواضعة، يأكل معنا، ويطعمنا كأننا أولاده”
وقال مجاهد آخر وقد بدت علامات التأثر على وجهه: “كان يحب التواجد في الخطوط الأمامية، كم كانت تليق به تلك البدلة المرقطة مع عمّته السوداء”
“كم سنفتقدك يا سيدنا!”
ولا زال الجمع يتناولون أطراف الحديث عن هذا القائد الذي بزّ بشخصيته كل القادة ريثما يصل موكب التشييع حيث لا وقت للحديث.
قال أحد الحضور: “لم يحدث هذا في لبنان من قبل، وربما لم أسمع به في أي مكان آخر! أن يستشهد القائد، اعتدنا على قادة أحزاب يتوارون عن الأنظار، ويرسلون أبناءهم إلى الدول الأجنبية لإبعادهم عن الحرب، وها هو قائد المقاومة، يتقدّم الركب، ويستشهد مع زوجه وابنه!”
وأيّده من حوله بقولهم: “إنها لعلامة فارقة حقاً. تسجّل لهذه المقاومة.”
وبعد وصول الموكب إلى بعلبك، وإقامة مراسم التشييع بحضور الآلاف من الناس، اتجه الموكب مجدّداً نحو بلدة النبي شيت، مسقط رأس السيد عباس حيث سيكون الدفن هناك.
الكل بالإنتظار، وقفت ابنة أحد الشهداء على جانب الطريق مع مجموعة من أهلها، وقد حملت بين يديها الصغيرتين صورة لأم ياسر الشهيدة، وشدّتها على صدرها ناحية القلب، وهي تقول: “آه يا أم ياسر من لنا بعدك؟! وأنت التي كنت تزورينا باستمرار لتتفقّدي حاجاتنا، كم سنفتقدك يا عزيزة!” كانت دموعها تسيل غزيرة على خديها كما الجمع من حولها وهي تقول: “احرقهم الله بنار جهنم! اللعنة على الصهاينة”، ولم تكن حال النسوة بأفضل من حالها وهن يستذكرن خصال أم ياسر الحميدة، زياراتها للفقراء والأيتام والوقوف على حاجاتهم.
أما أصدقاء حسين ابن الست سنوات فقد تجمّعوا حول صورته كما يجتمع النحل في الأفير، وسمع لهم دوي ونحيب، وهم لا يصدّقون أن رفيق الدرب حسين غادرهم ولن يعود، في الغد ستجلس صورته ماكانه على المقعد الدراسي الصغير لتزيّن الصف بعطر الشهادة.
واروا الجثامين الطاهرة تحت الثرى، وغادرت الجموع وكل في قلبه غصة وألف سؤال وسؤال.
يا أيها العابرون بنا، لا ترحلوا بعيداً، ولتمكث أرواحكم في قلوبنا، هناك حيث العشق الأكبر يستلهم منكم العطف والحنان ودروس الحياة.
وكأني بأصوات الشهداء آتية من بعيد، يردّد الزمان فيها رجع الصدى، يبشّر بخير آتي “لا تجزعوا.. فلطالما كانت دماء الشهداء مداداً لرسم طريق العزة والإنتصار.
هكذا همست الشمس التي ما زالت تسطع بنور الحياة، وانتشر نورها مع دغدغات الهواء، وجدائل الغيم تهوي مظلاّت فداء، وسكون الأرواح التي فاضت نسيماً وعبيرا يملأ الأجواء، ففي كل نقطة دم كتاب، عمر من العطاء المدوّن في سجلات الخلود.
تهيم النفس، تريد أن تمسك بتلابيب السر المدفون، تستخرج منه إكسيراً ليداوي الجرح المفتوح، فتحيا به المقاومة من جديد.
ماجدة ريا