قصة قصيرة بقلم ماجدة ريا
مرّت السنون، كبرت الطفلة، التي غابت عن قريتها الجميلة فترة من الزمن، وبقيت صورة القرية الوادعة الخضراء مطبوعة على حواف القلب، وهي تتساءل في سرّها: “هل المكان ما زال هو ذلك المكان؟ وهل إذا تغيّر الزمان يبقى المكان كما يريده الناس في مخيّلتهم أن يكون؟!”
سؤال يرنّ في أعماق دماغها يحتاج إلى جواب!
هي لا زالت هي.. تحب الطبيعة بجنون.. ولكنّها أيضاً غيّرتها السنون، فقد كبرت ولم تعد طفلة، وما زالت تبحث عن تلك الطبيعة الخلاّبة بوجودها البريء.
تعود بها الذكريات إلى تلك الرحلة البريئة التي قامت بها مع رفيقاتها، كنّ يومها في الثالثة عشر من العمر، يومها، حملت كلّ واحدة منهن كيساً في يدها، كي يجمعن بعض الأعشاب البرّية النافعة كالكبار، ربما في محاولة منهن لإثبات ذواتهن، وينجزن عملاً كنّ يعتبرنه من أعمال الفتيات الناضجات، وسرن باتجاه الحقل المحاذي لقريتهنّ.
الطريق غير معبّدة، يكسبها جمالاً غريباً بعض الأحجار المتفرقة هنا وهناك وقد بدت متشبِّثة بالأرض صعبة الاقتلاع، تدثِّرها بعض الأعشاب التي وزّعت حولها اللون الأخضر.. أما أشجار الزيزفون التي امتدّت على جانبي الطريق فقد كانت تستوقفها كثيراً لتملي النظر من جمال زهرها على صغر حجمه برائحته النفّاذة التي تنعش القلوب وأغصانها التي تملأها أشواك قاسية تحذِّر كل من يقترب منها بأنها قد تدمي يديه.
تابعنَ المسير ببراءة الطفولة التي بدأت تمتزج بمعالم الفتوّة، فرحات مزهوّات وقد امتلأن نشاطاً وحيوية حتى وصلنَ إلى ذلك النبع الذي يفجّر ماءه صاخباً ويشقّ درباً له مع جانب الطريق ويجعل الأرض من حوله موحلة بالرغم من كثرة الحشائش التي عرّشت على جانبي المجرى، ومنها تلك الأعشاب البرّية التي جئن يبحثن عنها، فهي تنبت بجانب الماء كـ ” النعنع البري” و”الجرجير” ..
أخذن يتسابقن، كل واحدة تريد أن تملأ كيسها لتفرح والدتها بما أحضرت.
كان “السُعد”، وهو نوع من العشب البرّي، أوراقه طويلة أبرية الشكل أيضاً، يحب الماء وينمو حيث يوجد بكثرة، كان يملأ المكان ويزيده جمالاً برونق اخضراره.
وكانت الواحدة تقول للأخرى: “حاذري من الغرق فالأرض موحلة جداً”. حتى إن أحداهنّ علقت قدمها فأسرعن نحوها ليسحبنَها من تلك الغرقة وهن يضحكن فرحاً.
كان كلّ شيء في هذا الحقل ناطقاً يضجّ بالحياة، يُعبِّر عن ذاته بذاته.
الآن وهي تسير على ذلك الطريق تشعر بالأسى في نفسها، تنظر إليه مستحضرة صورته القديمة، أيام الخير ووفرة الأمطار، والحقل البكر الذي لم تخربه يد الإنسان، الطريق الذي جفّت عروقه حتى تغطّت أحجاره بالغبار بدلاً من تلك العشيبات النضرة، أما أشجار الزيزفون فلا تعرف كيف اختفت، وأي أيادٍ اجتثتها من الجذور…
وازدادت أسى عندما وصلت إلى مكان النبع الذي ما زالت تفرح كلما استذكرت صورته، وقد جفّ حتى لم يعد له أي أثر، وانضم إلى الطريق الترابي، وبات المكان موحشاً سوى من زرقة السماء وعواميد الكروم التي انتشرت هنا وهناك وكأنها شنت حملة عشواء على ذلك الحقل فلم تبقِ شيئاً فيه سواها!
هرم الحقل! ولم تعد تلك اللوحة التي أبدعها الخالق موجودة سوى في مخيلتها كما رسمتها مخيلة طفلة صغيرة.