انبلجت عتمة الأيام، ليشعّ نور الشهر الكريم مضيئاً، محمّلاً بالخيرات والمكرمات.
ها نحن قد ولجنا إلى فسحة من أعمارنا، فسحة هي المحطة المثلى من كل عام، نجدها قد افترشت أيامنا لتزيل عنّا ما علق من خلالها بأنفسنا من أدران هذه الدنيا، فهل نعطيها حقّها؟
وهل نعرف قيمة هذه الأيام المباركة؟ وكيف يُستقبل هذا الشهر الكريم؟
ولعلّ استقبال الناس لهذا الضيف الكريم متنوّع بتنوّع درجة ثقافتهم، ومدى تشكيل الوعي لديهم بفضل هذا الشهر وأهميته على حياة الإنسان فيما يتعلّق بكل جوانب هذه الحياة، وتأثيراته فيها سواء كانت معنوية أم مادية.
فمعظم الناس يدركون عظمة هذا الشهر، ينتظرونه بفارغ الصبر، يستبشرون بقدومه لتلهج ألسنتهم بدعاء الشكر لله “الحمد الله الذي بلّغنا إياه” فيقبلون عليه بقلوب مفتوحة، ترغب بأن تغترف قدر ما تستطيع أن تدرك من مغفرة ورضوان.
وهنا تختلف درجة السعادة ومحاولة السعي عند الأشخاص أيضاً، وإذا ذكر شهر رمضان قد يتعلّق الواحد منهم بجانب يعنيه ويهتم به أكثر من غيره، فبعضهم أول ما يستذكر، يستذكر رغبته في قراءة القرآن الكريم، والأدعية والأعمال المختصة بهذا الشهر بحيث يصب جل اهتمامه على الأمور العبادية رغم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في خطبته الشهيرة في استقبال شهر رمضان: “أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة” ولكن يبقى أنه لحلاوة تلك العبادات مع الصوم نكهة أخرى وطعم يستلذّ به كل محاول للتقرب من الله سبحانه وتعالى، إضافة إلى أجرها الذي يضاعف بدرجات في هذا الشهر الكريم حيث تغل الشياطين، وتغلق ابواب جهنم، وتفتح أبواب الجنان، حتى لكأن الصائم المخلص لربه يستشعر نفحاتها ويتذوّق حلاوتها.
والبعض إذا ذكر شهر رمضان، سال لعابه لأطايب الطعام، وكأن كل ما يعنيه منه السفر الممدودة، وأصناف الطعام المختلفة، حتى إذا ما صام نهاره، كان همه أن يبلغ الإفطار بما يحمل له من تخمة، تعيقه عن أداء الأمور العبادية.
وهناك نوع من الناس يفرحون بقدوم شهر رمضان لأنه تحول إلى مهرجان عرض لأفخم الإنتاجات التلفزيونية التي يعمل عليها طوال العام، وتتسابق المحطات الفضائية في اختياراتها، لجذب المشاهدين إليها، ليتحوّل الشهر الفضيل إلى أفضل سوق لهذه الإنتاجات، فترى بأن بعض الناس قد تحوّل إلى مجرّد متابع لها، ربما يتنقّل بين المحطّات لاصطياد ما يشبع رغبته تلك، التي تصبح هاجسه، حيث تشكل عاملاً مسلياً لقضاء الوقت لا بل القضاء على الوقت.
وإذ تتنوّع الأعمال المقدّمة وتتدرّج في تصنيفاتها بين ممتاز وجيد ومقبول، إلى أن نصل إلى اللا مقبول (والمقصود فيها برامج اللهو والخلاعة وما أكثرها) ومع ذلك فهو يعرض، ويسحب وراءه مجموعات من الناس، الذين ينجرون وراء أهوائهم دون قيد أو رادع، أو احترام لحرمة هذا الشهر العظيم.
على أن الفضائيات تختلف بطريقة اهتمامها بالضيف الكريم، وفقاً لطبيعة مديريها، فيبرز تنوع البرامج فيها وفقاً لذلك، فإما تحافظ على التزامها بل وتزيد منه في هذه الأيام المباركة، فتراقب كل صغيرة وكبيرة من أجل المحافظة على حرمة هذا الشهر الكريم وتوليه أهمية خاصة يستحقها، وتختار برامجها بدقة وعناية، وتعطي لكل شيء حقه، فتؤمن برامج تثقيف للناس حول ماهية هذا الشهر الكريم دون أن تثقل عليهم، فتكون البرامج من الناس وإلى الناس ومن القلب إلى القلب، وتعرض فيها المعلومة بطريقة سلسة ومحببة، وتترك وقتاً لبعض المسلسلات التلفزيونية التي لا تعبر تضيعاً للوقت، وإنما فيها من روح بث المقاومة واستنهاض الجماهير وتركيز مفهوم الوطن عند الناس، وحتى الترفيه في تلك المحطات يأخذ نكهة الإلتزام بحيث أن المرء يمكن أن يلجأ إليها في أي وقت يريد.
وهناك نوع آخر من المحطات تسوّق للبرامج التي أعدّت لهذا الشهر من دون معيار واضح تجاه ما هو مسموح أو ما هو غير مسموح، وهنالك منها من يذهب أبعد من كل ذلك فتملىء جلّ أوقاتها باللهو والمجون والعياذ بالله.
ولعلّ البعض من الناس، يزعجهم قدوم هذا الشهر الكريم لأنهم يعتبرون أنه يحدّ من حريتهم، ويفرض عليهم الإمتناع عن الملذّات التي اعتادوها، فيشعرون بأنه ربما يثقل عليهم ويحدّ من حركتهم، ويحرمون أنفسهم من لذة الإستمتاع بالشعور بالصوم الحقيقي الذي يسعد معه الصائم حتى بجفاف ريقه أيام الحر الشديد عندما يتذكر الحديث الشريف “خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك” وربما هناك من يصوم منهم لأن الصيام مفروض عليه، أو ربما حياء من الناس لأن الكل صائم أو ربما لا يصومون وقد يصل الأمر بالبعض إلى درجة المجاهرة والتفاخر بما يرتكبون من معصية، غير مبالين لأن استهتارهم بالحياة قد بلغ حداً أعمى بصيرتهم عن حقيقة هذا الشهر وماهيته، وما يحوي من كرامات ومكرمات لمن يحفظ حرمته، ويسعى لمرضاة ربه والذي وعد الناس ” الصوم لي وأنا أجزي به”.
واذا ما وصلنا إلى الذين قد ابتعدوا أشواطاً كبيرة عن روح الإسلام سنجد أن هذا الشهر قد تحول والعياذ بالله إلى موسم مثمر لمحبّي اللهو والسهرات الماجنة التي تقام حتى الصباح، ولعلّ الصيام لا يعنيهم في هذا الشهر، وكل ما يعنيهم منه جني الأرباح، وتكديس الأموال، وجذب الناس من أجل جرّهم إلى الإثم، مع وجود هذا الكم من الفجور، وهم لا يجرّون إليهم سوى ضعاف النفوس الذين تمكّن منهم الشيطان حتى بات ملازم لهم، فلا يدركون بركة هذا الشهر، ولا يحصلون على تقديماته للمؤمنين.
ومهما كانت المغريات التي يقدمونها فإن النفس المؤمنة والمحصنّة بحب الله، لا يمكن لها الإنجرار وراء أي من تلك المغريات التي يمكن أن تقدّم أياً كان نوعها، وإنما يحرص المؤمن في كل الأوقات، ويزيد حرصه في أيام شهر رمضان المباركة في اجتناب كل المعاصي ، ليحقق معنى الصوم الحقيقي، والذي من ضمنه ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن صمتم فلتصم أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وجوارحكم.