ارز لبنان

لطالما وجدت نفسي ألهث وراءها، ولطالما سعيت إليها بجد حثيث لكنني أعترف أنه غير كاف، تسكنني كسحر جميل لا يقاوم لكنّه ضائع بين سراب الأيام، وزرافات الأوجاع في وطن لم يبق منه سوى اسمه.
لست وحدي التي تضيع في غياهب المعمعات المحيقة به، أو التي تتوه في شجونه إلى حد الغرق، فقط أنفي هو الذي ما زال ظاهراً يصارع الأمواج العاتية كي يدخل منه بعض الأوكسجين الذي يساعدني على البقاء.
لا زلت أمتلك قوة الحياة، أبحث عن محرّكات الدفع في جسدي الغارق، فتتحرّك أطرافي بحركة المصارع في لحظات الحسم الأخيرة، لتسدّد للخصم لكمة الموت، ولتنتشل روحي من براثن الغرق.
لكم رسمت للوطن في أحلامي الكبيرة صوراً! لكن يبدو أن الإحتباس الحراري للأرض أثّر حتى على أحلامنا البريئة، فذابت.
لم أنهزم في نفسي لأنني أكره الإنهزام، ولم أيأس وأنا ما زلت أتنفّس، بل انحنيت بكل تجاسر، ألملم الأحلام الذائبة، أجمعها في علبة كبيرة، أحاول جهدي أن أبحث لها عن مكان بارد يُطفئ حميمها المتأجج المستعر، كل ما يحيط بها ساخن، لكنني لا أعبأ باحتراق يديّ وهما تحملانها لتبحثان لها عن مقر آمن.
لا، لن اسمح لأحلامي بك يا وطني أن تبقى مرمية على الأرض تعاني الإحتراق إلى حد التّبخر! حتى لو كان جسدي هو الظل الذي سيحترق فداء لك، فإنني أرحب بجحيم الإحتراق، على أن تبقى أنت يا وطني لبنان الذي أحبّه، وسأبقى أحبّه.

وأنتِ! أيتها الكتابة، لا زلت تتوهين مني في بحر من الغموض، أغوص فيه أحياناً، وأبتعد في أغلب الأحايين، رغم أنك الجزء المضيء في روحي، المشعّ في أعماقي، يلبسك هذا الوطن، وواقع المأساة الأحمر القاني، فتتوهين في وجداني، وتختلطين في ذرّات كياني، وتبقين هناك في زوايا الروح، تئنّين وجلاً وأنت تسمعينني أقول لقد مللت من كتابة الوجع!
منذ أشهر قليلة، كنت تتباهين كعروس في طرحتها البيضاء، التي وإن غُطّي وجهها يظلّ يشعّ نوراً كشمس لا  يُمكن أن تُحجب.

كانت حروفك تسابق الزمن، تبرز هنا وهناك، تشرق بلون الإنتصار، لكنّه الإعصار المدمّر، الذي يطيح بالكائنات والجماد، بالكلمات والحروف.
إعصار جاءنا من بلاد الصقيع، فتجمّد الكلام، وتغبّشت الرؤية، وتغلغلت الغيوم السوداء، وانطلقت دوّامات الرياح، تعصف بكل ما هو نبيل وجميل، ثوبك الأبيض تشظّى، حتى اخترق حدود الزمان والمكان.
لا زلت أبحث معك عن تلك اللحظات الدافئة، عندما كنت تدثّرين المجازر المتنقّلة في تموز 2006 بروحك ، فتتسع لتلك الأرواح البريئة، وتحملها إلى العلياء، مضرجة بدماء الشهادة، وتشرق من أنّاتك روح التحدي وامتداد البقاء…

لا زلت أذكرك أماً تحنو على الجميع، وقلباً يتسع ويكبر بكبر لبنان، والفخر يرفع هامتك عالياً …
أراك اليوم تبحثين عن الكلمات فلا تجدينها؟ تبحثين عن هذا الوطن الذي رويته بنجيع آلامك، تبحثين عن البقاء الذي صنعته بدموع اليتامى والأرامل والثكالى والشيوخ…
تبحثين عن علاج لحقائق تشوّهت كيف تعيدين لها وجهها الحقيقي؟
اسمع صراخك الآن يملأ الآفاق وأنت تقولين:
جاء قلبي ليكتب، قُلت له يا قلبي لقد ضاعت الكلمات، أبحث عنها ظلالاً متواربة هنا وهناك، ولم يبقَ سوى الإحتراق، ثم الإحتراق، ثم الإحتراق.
فهل الرماد عندما ينثر على أرض الوطن يمكن له أن يزهر من جديد؟!!!!!!
أيا وطني، أيا وجعي، أيا ألمي، أيا حزني…..
أيا أهلي، إلى أين نحن ذاهبون؟
لقد اكتوت المهج، وسالت الدماء، والعيون لا ترى بل تحس بشلاّلات آهاتها العاجزة عن وقف هذا النجيع وعن تسكين هذا الألم، والجرّاح يجري عمليته بكل وقاحة دون أي مسكّن حتى ولو موضعي، بل يدخل مبضعه الملوّث في جسمك يا وطني وينظر إلى عينيك المرتجفتين بالدموع وهما ترمقانه بوجل!

لبنان… بات اسمك يبكيني، بات أرزك يشجيني، ولون الأحمر في علمك يمتدّ إلى شراييني.
لبنان… يا وطني الصغير الكبير.
                                 

 ماجدة ريا 1 تموز 2007 

عدد الزوار:2449
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.