بحث حول رواية “عائد إلى حيفا”

بحث حول رواية “عائد إلى حيفا”

عائد الى حيفا

عائد إلى حيفا

إعداد البحث: ماجدة ريا

مقدمة:

في هذا البحث أتحدّث عن الأسباب التي دفعتني لإختيار هذه الرواية، وأقدّم نبذة مختصرة عن حياة كاتب الرواية، وأعرض لملخّص لها، ومن ثم أبحث في الرؤيا التي يمتلكها الكاتب، وكيف حاول إيصالها من خلال هذه الرواية، وهل نجح بذلك؟.

ما دفعني لإختيار هذه الرواية عدّة أسباب منها:

أولاً لأنها من إحدى روائع كتابات الروائي المناضل غسان كنفاني، وقد سبق أن تعرّفت على موضوعها من قبل من خلال المسلسل التلفزيوني “عائد إلى حيفا” وقد جذبني إليها موضوعها الشيق، وما عرضت له من أفكار، على أنّ القراءة في الرواية له متعة أدبية أكبر، لأنها تجعل المرء يغوص مباشرة في ما أراد أن يقوله الروائي غسان كنفاني دون مؤثرات خارجية، فيلمس بعض العبارات، وبعض الأفكار التي أراد لها الوصول إلى القارئ بطريقة مختلفة، وكانت حشريتي لأن أتعرّف إلى ما كُتب فيها والتعمق في دراستها قدر الإستطاعة.

وثانياً لأنّها تحمل روحاً نضالية إضافة إلى أنّها تميط اللثام عن الوجع الفلسطيني الذي يمثل أبطال القصة جزءاً منه، فمعاناة أبطال القصة تكاد تكون أنموذجاً للكثرين ممن يعيشون هذا الهم، وهذا الوجع.

نبذة قصيرة عن حياة المؤلّف:

ولد الروائي غسان كنفاني في عكا عام 1936 ، وعاش في يافا واضطر للنزوح عنها كما نزح آلاف الفلسطينيين بعد نكبة عام 1948 تحت ضغط القمع الصهيوني، حيث أقام مع ذويه لفترة قصيرة في جنوب لبنان، ثم انتقلت العائلة إلى دمشق.

عاش حياته مناضلاً، فكان قلمه بندقية يرمي رصاصه على العدو الصهيوني، فكتب في الرواية، والمسرحية، والمقالة، والبحث وكل هذه الألوان في فن الكتابة من أجل إيصال فكره الثوري الذي أدّى إلى استشهاده عن طريق تفجير سيارته في الحازمية في بيروت وهو في عمر مبكّر عام 1972 .

ملخّص الرواية:

 تتحدّث الرواية عن مأساة سعيد وزوجته، هذه العائلة التي اضطرّت للنزوح مع آلاف الأسر عن مدينة حيفا بعد غزوها من قبل الصهاينة، وتبدو مأساة النزوح عن المدينة بسيطة أمام مأساة هذه العائلة التي لم تتمكن من إحضار ابنها من المنزل، وهو في الشهر الخامس من عمره، تُرك وحيداً في المنزل، إلى أن قُدّم هدية ثمينة مع المنزل إلى إحدى الأسر اليهودية، أما العائلة المفجوعة، فقد عاشت مع وجعها سنيناً طويلة، وعندما فُتح باب العودة إلى المدينة بعد مرور عشرين سنة، قرّرا العودة إلى حيفا، وعندما عادوا إلى هناك، وجدوا أن منزلهم أصبح بيتاً لعائلة يهودية، وابنهم “خلدون” أصبح إبناً لتلك العائلة اليهودية، تربّى على أيديهم، وتشرّب عقائدهم إلى حد الثمالة، إلى حد رفض معه الإعتراف بأصله العربي، وتنكّر لجذوره معلناً أنّه يقف في المقلب الآخر من المواجهة، وترك هذا الأمر صدى قوياً في نفس سعيد الذي كان يعارض انخراط ابنه الشاب الذي تركه في “رام الله” في المقاومة ضد المحتلّين، أما الآن فقد أصبح هذا الأمر أمنية عزيزة.

الرؤيا في رواية “عائد إلى حيفا” للروائي غسان كنفاني

“في هذه الرواية، يرسم غسان كنفاني الوعي الجديد الذي بدأ يتبلور بعد هزيمة 67 . العائد إلى مدينته التي ترك فيها طفله يكتشف أن “الإنسان هو قضية، وأن فلسطين ليست استعادة للذكريات، بل هي صناعة للمستقبل.

مأساة سعيد س. ومأساة الوطن الغائب تنكشف هنا كلحظة ارتطام بالحقيقة.”فعائد إلى حيفا”، هي بحث عن الحقيقي وقد شكلته درامية الهزيمة. فالخيار ليس بين الإبن الذي فقد والإبن الذي بقي، بل هو خيار أن يتمرد الإبن على الأب ليصنع الحاضر ويعطي الماضي صورته المختلفة.” (1)

لعل هذه العبارات الموجودة على غلاف رواية “عائد إلى حيفا” هي خير تعبير عما كان يرمي إليه الروائي من خلال روايته.

فغسان كنفاني الذي عاش كلاجئ يحلم بالعودة، وكمناضل سخّر طاقاته من أجل رسم أحلام العودة إلى بلده

فقد صاغها وفقاً لرؤيته التي كان يتطلع إليها، والتي مارسها فعلاً وقولاً حتى كانت السبب في دفع حياته ثمناً لها فقضى شهيداً.

هذه الرواية ـ “عائد إلى حيفا” ـ هي نموذج من كتابات الشهيد “غسان كنفاني ” فقد تميّز بأنّه من روّاد الأدب المقاوم بحيث كانت رواياته تلقى صدىً طيباً لدى المخرجين واختير عدد منها كأعمال فنية مصورة مثل “عائد إلى حيفا ” وفيلم “السكين” عن رواية “ما تبقى لكم” وفيلم “المخدوعون ” عن رواية “رجال تحت الشمس” ..

يبدأ الكاتب روايته برحلة العودة بسيارته مع زوجته صفية، ويصف مشاعر التوتر والقلق التي كانت تجتاحهما وهما في طريقهما إلى حيفا بعد أن سمح العدو للفلسطينين بالدخول إليها بعد عشرين عاماً من احتلاله لها.

لطالما حلم بهذه العودة، وهنا يعبر عن حلم كل لاجئ فلسطيني أجبر على ترك بيته ورزقه، وهو إضافة إلى ذلك أجبر على ترك ابنه “خلدون”  بحيث لم يتمكن من الوصول إلى المنزل لاصطحابه معه في رحلة الهجرة الطويلة. ولكنه لا يتأخر عن وصف مشاعر المهانة التي يشعر بها وهو في طريق العودة، فعندما قالت له زوجته ” لم أكن أتصور أبداً أنني سأراها مرة أخرى” أجابها :” إنت لا ترينها، إنهم يرونها لك” (2) فهي أصبحت محتلة، وأصبحت كما يريدها الإحتلال، وليس كما يجب أن تكون. السخط والغضب يبدوان واضحين في كلام سعيد، والتعبير عن رفضه لهذا الإحتلال المذل والمهين  يريد منه توصيف مشاعر الفلسطينيين ومعاناتهم المرة؛  ولكنها رحلة لا بدّ منها، فالمشاعر القوية التي تشدّهم إلى مدينتهم أقوى من أن تقاوم، إضافة إلى حلم يروادهم بإيجاد ابنهم “خلدون” الذي أصبح شاباً، فهو ما زال يعيش في أحلامهم، ويرغبون باستعادته.

ما زال يحفظ الأماكن والأسماء، وإن استبدلوها بأسماء أخرى، فما زالت هي هي بالنسبة إليه، فاحتلال الأرض وتغيير الأسماء لا يغير واقعها، ولا يسقط ملكيتهم لها، ولا يفقدهم الحق بها، فهي ستبقى كما كانت في السابق بالنسبة إليه، وإن كان واقع القوة والتسلط  والقهر يفرض واقعاً غير هذا، وهذا يعبّر عن رغبة الفلسطيني بالتمسك بأرضه، وسعيه إلى العودة إليها، وحلمه بأن يتمكن من تغيير هذا الواقع.

وفي طريق العودة، تنفلش الذاكرة، وتعود إلى الماضي، ليصف لنا الكاتب مأساة لحظات الفرار من بطش العدو بكل قسوتها، لحظات مرة تعيش مع الزمن، فلا تدفن، بل تبقى تطرق وجدانهم في كل لحظة، لتكون مأساة مستمرة لا تنقطع.

 استعاد كل شيء، فها هو يصف مشهداً من تلك المشاهد بقوله “شعر أنه يندفع دونما اتجاه، وأن الأزقة المغلقة بالمتاريس أو بالرصاص أو بالجنود إنما تدفعه دون أن يحس، نحو اتجاه وحيد، وفي كل مرة كان يحاول العودة إلى وجهته الرئيسية، منتقياً أحد الأزقة، كان يجد نفسه كأنما بقوة غير مرئية يرتد إلى طريق واحد، ذلك هو المتجه نحو الساحل.”  (3) وهذا تعبير عن أن الفلسطيني في ذلك الوقت كان لاحول له ولا قوة، ولم يكن أمامه خيار، فإما الموت وإما الهجرة والرحيل بعيداً عن دياره وأرضه إذا أراد البقاء على قيد الحياة. هي هجرة مفروضة إذا، لكننا سنجد في نهاية الرواية أن خيار الفرار ربما لم يكن صائباً، وكان يجب التمسك بالأرض والبقاء فيها، وعدم تركها للعدو كي يمرح، ويبني قوته عليها، فقد ظهر هذا الأمر في عدة مفاصل من الرواية، تظهر فيها رؤية الكاتب لهذه المسألة، إذ يؤكّد في أكثر من تعبير أنّ ترك الأرض والبيوت ما كان يجب أن يكون، بل كان لا بدّ من مقاومة العدو في الماضي، والحاضر، والمستقبل حتى استعادة كامل الحقوق.

ويصف الكاتب الحرقة واللوعة لتلك اللحظات  التي دُفعوا فيها إلى الهجرة دفعاً في مشهد آخر لصفية فيقول ” لم تكن كلماتها الطائرة فوق ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أي أذن. لقد ردّدت كلمة “خلدون” ألف مرة، مليون مرة، وظلت شهوراً بعد ذلك تحمل في فمها صوتاً مبحوحاً مجرحاً لا يكاد يسمع. وظلّت كلمة “خلدون” نقطة واحدة لا غير، تعوم ضائعة وسط ذلك التدافق اللانهائي من الأصوات والأسماء.” (4)

هذا المشهد وإن كان يعبر عن لوعة أم مكلومة اضطرت إلى ترك ابنها ولم تعد قادرة على الوصول إليه بسبب سد كل المنافذ والطرق في وجهها، إلاّ أنّه يعبّر أيضاً عن مشهدية الهجرة القاسية التي اضطر إليها هؤلاء الفلسطينيون، فصوتها لا يسمع من شدة الزحام، فالناس في حالة ذهول وضياع، يدفعون باتجاه واحد هو الهجرة وترك منازلهم ومدينتهم، وصفية وخلدون وسعيد هم رقم بين هؤلاء الأرقام، ومأساة عائلة هي مأساة كل عائلة هجّرت عن أرضها ظلماً وعدواناً.

وقد أبدع الكاتب في استخدام الزمن، من خلال تقنية الإسترجاع ليربط بين الماضي والحاضر، ليوضح رؤية الأمور للقارئ من خلال رؤيته هو، هو يريد أن يوصل هذا القارئ إلى الرؤيا التي يريدها هو من خلال عملية السرد المميز.

فبعد أن عاد بذاكرته عشرين سنة إلى الوراء، ليعلمنا كيف كان الخروج القسري من مدينة حيفا، وكيف دُفع الناس إلى ذلك وهم في ذهول مما يجري، وهم لا حول لهم ولا قوة، يعود إلى الواقع حيث كان يقود سيارته باتجاه هذه المدينة بعد أن مضى على احتلالها عشرون عاماً، عاد بالزمن بضعة أيام ليخبرنا كيف تبلور مشروع رحلة العودة، مع ما رافق ذلك من آلام، وحلم كان يدرك أنه سيبقى مجرد حلم، فحيفا لم تعد لهم، فماذا سيجدون هناك.

قالت له صفية: “إنهم يذهبون إلى كل مكان، فلماذا لا نذهب إلى حيفا؟” وأجابها: “نذهب إلى حيفا.. لماذا؟”  جوابه هذا يحمل في طياته الكثير من التسليم بالواقع المر، وخوفاً كبيراً من أن الذهاب إلى هناك الآن غير مفيد أبداً، وتابعت رجاءها :” نرى بيتنا هناك، فقط نراه”( 5)  وهو كان يعلم أنها تريد شيئاً آخر وليس رؤية البيت وحسب فسألها: “صفية بماذا تفكرين؟” (5) وعرفت هي أن ذات التفكير يراوده، لكنه لا يجرؤ على مصارحة نفسه بذلك، وعندما لفظ كلمة “خلدون” أكّد ذلك بنفسه، فهما لم يسميا أحداً من أبنائهما بهذا الأسم، لأنهما ربما اعتقدا ولو بالحلم أنهما يمكن أن يستعيدا خلدون يوماً ما.

هنا الكاتب يبدو عالماً بطبيعة الصراع وبطبيعة المرحلة  ويظهر ذلك جلياً عندما يقول لها: “أوهام يا صفية أوهام! لا تتركي لنفسك أن تخدعك على هذه الصورة المحزنة”… وينتهي إلى قوله “لا”، ويؤكدها بـ “لا” ثانية، “لا أريد الذهاب إلى حيفا، إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلاً واحداً لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلاّن، لماذا نعذب أنفسنا؟” (6)

في هذا الكلام تأكيد على أنّه يدرك في أعماقه ما لا تريد هي أن تدركه بسبب سيطرة العاطفة الجيّاشة تجاه ابنها المفقود على كل أحاسيسها ومشاعرها، وأنه يوصف واقع حال الفلسطنيين وما عانوه من الذل والمهانة بسبب هذا الإحتلال، ويشير إلى ذلك بكل صراحة ووضوح. لكنه أمام دموعها الحارّة، ورغبة دفينة في داخله لمعرفة مصير منزله وولده، ولسبب آخر أورده صراحة في حديثه، قرر الذهاب فكانت رحلة العودة إلى حيفا.

فقد قال لها: “في القدس ونابلس وهنا (يقصد رام الله) يتحدّث الناس كل يوم عن نتائج زياراتهم إلى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث. كلهم يقولون كلاماً متشابهاً ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم، جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة.” (7) هنا يؤكّد تشاؤمه من أن العودة إلى حيفا لن تثمر سوى الخيبة والخيبة الكبيرة. والكاتب يعبّر هنا عن الإنكسار الذي عانى منه الشعب الفلسطيني، وهو يضع يده على الجرح، هذا الجرح الذي طالما نزف دون توقف، فهو يلمسه بكلماته وعباراته. ويتابع قوله “إن المعجزة التي يتحدّث عنها اليهود لم تكن إلا وهماً. في البلد هنا ردة فعل سيئة جداً، وهو عكس ما أرادوه حين فتحوا حدودهم أمامنا. لذلك فأنا أتوقع يا صفية أن يلغوا ذلك القرار قريباً جداً، وهكذا قلت في لنفسي، لماذا لا نقتنص الفرصة ونذهب؟”. (8)

إذاً هذا هو السبب الذي دعا سعيد للذهاب في هذا الوقت إلى حيفا، لأنه كان يدرك في أعماقه مخطّطات اليهود، ومع أن الذهاب الآن مليء بالذّل والمهانة، لكنه ذهاب لا بدّ منه، إذ أنّه ربما لا تتاح له فرصة أخرى في المدى المنظور. أراد الكاتب أن يظهر من خلال هذا صورة الصهاينة الحقيقية، التي تسعى إلى سلب الآخر كل شيء دون رحمة أو تنازل، وأن مخطّطاتهم لم ولن تنتهي، وهم لم بفتحوا الحدود رأفة بالفلسطينيين، وإنّما من أجل إيقاع المزيد من الذّل والهزيمة بهم.

يتحدُث الكاتب عن الحنين والمشاعر الدفينة التي تفجّرت في نفس سعيد وزوجته، وهما يتجولان في شوارع المدينة التي عاشوا فيها ردحاً من الزمن، ليوصلنا إلى مدى الحسرة التي يمكن أن يشعر بها المرء في مثل هذه الحالة، وقد نجح الكاتب  بشكل كبير في إيصال هذه المشاعر إلينا وعندما وقفا أمام باب منزلهم القديم قال لزوجته:” غيروا الجرس” ثم أردف ” والإسم طبعا” (9) وكأنّه أراد أن يقول لها هذا لم يعد بيتنا، بل أصبح ملكاً لأشخاص آخرين. وهذا لم يكن مفاجئاً بالنسبة إليه، بل كان يدركه في أعماقه، وها هو يعترف به الآن بعد أن رآه حقيقة واقعة. فما للفلسطينيين لم يعد لهم، وإنما استولى عليه هؤلاء الأشرار بقوة السلاح والإرهاب.

وعندما دخلا إلى المنزل، كانا ضيوفاً عند تلك المرأة التي استقبلتهم، وهي تدرك أنّها في موقع القوة، وهما في موقع الضعف. ولكن ذلك الحنين دفعهما لتحمّل هذا الشعور القاسي، ودفعهم للتأمل أكثر في الأشياء التي يحتويها هذا المنزل، والتي لم يطرأ عليها تغيير كبير، فهؤلاء الغرباء الذين أتوا من أماكن بعيدة، ما زالوا يستعملون أغراضهم وأشياءهم بعد أن استولوا على منزلهم، فأي ظلم أشنع من هذا الظلم، أن يرى الإنسان أغراضه وأشياءه في يد عدوه، يتنعّم بها، في حين أنّه هو يعاني من التشرد والضياع!

لقد نجح الكاتب في إيصال كل ذلك إلينا من خلال عباراته وتوصيفاته التي لامست وجه الحقيقة بكل ما تحويه من ألم ومأساة.

هذه المرأة كانت تملك من الجرأة والثقة بأن تستبقيهما حتى عودة “دوف” قائلة: “علينا نحن الإثنين أن نعترف بأنّه هو وحده صاحب الحق في أن يختار.. أتوافق؟” (10)

وهنا يعود الكاتب إلى تأكيد رؤيته بأن سعيد (ويعني به كل فلسطيني) قد أخطأ في ترك بيته، أياً يكن السبب الضاغط الذي دعاه لذلك، وهذا باعتراف صريح من سعيد عندما قال لصفية: “بلى، كان علينا أن لا نترك شيئاً. خلدون، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الذي انتابني وأنا أسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كيف أشعر أنني أعرفها وأنها تنكرني. وجاءني الشعور نفسه وأنا في البيت، هنا.هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك إنه ينكرنا!. ألا ينتابك هذا الشعور! إنني أعتقد أن الأمر نفسه سيحدث مع خلدون… وسترين!”

 لعل هذا نوع من مؤاخذة النفس، والندم على القرار الذي اتخذ سابقاً بالهجرة، حتى لو كانت هجرة قسرية، فالكاتب يرى أنه لا بد من التشبث بالأرض والبيت والولد تحت أي ظرف، حتى لا تنكره هذه الأشياء، يجب أن يحميها ويتشبث بها حتى لو دفع دمه مقابل ذلك، هذه هي القناعة التي توصّل إليها سعيد بعد مضي كل تلك السنين، وهي الحقيقة التي أراد إيصالها لنا الكاتب من خلال رؤيته للأمور.

في هذه الأثناء يروي لنا الكاتب قصة عائلة أخرى هي عائلة “فارس اللبدة” بشكل مقتضب لكن بمشهدية لا تخلو من الرمزية، وإيصال الرسائل المكثفة من خلالها.

فعندما عاد فارس إلى منزله في حيفا بعد عشرين عاماً، وجد فيها شخصاً فلسطينياً يسكنه مع عائلته، وقد ركّز الكاتب على صورة الشهيد “بدر” أخ “فارس” الشاب العشريني الذي حمل سلاحه ودافع عن أرضه حتى استشهد، الصورة التي ما زالت معلّقة على الجدار، والتي كانت تواسي أهل الدار لأن ما فعله هذا الشهيد يعنيهم. فالذي سكن في الدار شاب مقاوم، كان مع الثوار وعندما استولى الصهاينة على يافا اعتقلوه مع آخرين بعد أن خذلهم العرب، وعندما خرج من السجن رفض مغادرة حيفا، واستأجر المنزل من الحكومة الإسرائيلية،  ورمزية الصورة التي تمثل الشهيد ومعنى الشهادة بشكل عام يظهرها الكاتب على لسان الرجل وهو يتحدث إلى فارس بقوله: “حين جئت إلى البيت كانت الصورة أول شيء شاهدته، وربما كنت قد استأجرت البيت بسببها……. وبعد أن خرجت من السجن شعرت بأنني محاصر. لم أشهد عربياً واحداً هنا. كنت وحدي جزيرة معزولة في بحر مصطخب من العداء……… وحين شهدت الصورة وجدت فيها سلوى. وجدت فيها رفيقاً يخاطبني ويتحدث إلي ويذكرني بأمور أعتزّ بها وأعتبرها أروع ما في حياتنا.” (11)

وللإشارة هنا فإن السلوى تأتي من الأحياء، وأكّد نظرته إلى حياة الشهيد في قوله  أنه يتحدّث إليه، ويخاطبه، فهو ليس بميّت، بل يؤكّد مصداق الآية الكريمة التي تقول: بسم الله الرحمن الرحيم ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون، صدق الله العلي العظيم.

وهذا لم يعبّر عنه الكاتب في الرواية عن سبيل الصدفة، ولا لأنّه يريد أن يملأ أوراق الرواية بالأحداث، بل لأنّه يعني كل كلمة وكل حرف، ليوصل رؤيته التي يؤمن بها.

وعندما قرّر فارس أخذ الصورة، وسمح له الرجل بذلك، يصف الكاتب كيف أن قوة ما دفعته لإعادتها كي يوصل لنا الكاتب مجدّداً رسالة أخرى من خلال الرجل الذي كان مقاوماً وتمسّك بأرضه عندما قال لفارس: “شعرت بفراغ مروّع حين نظرت إلى ذلك المستطيل الذي خلّفته على الحائط. وقد بكت زوجتي، وأصيب طفلاي بذهول أدهشني”. (12) كل هذا ليعبر الكاتب عن أهمية الصورة وما تعنيه بالنسبة إليهم. ويتابع قوله: “لقد ندمت لأني سمحت لك باسترداد الصورة، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن. عشنا معه وعاش معنا وصار جزءاً منا”. (12) ليؤكد بأنّ الروح الثورية ما زالت تعيش بهم طوال تلك الأعوام، رغم الإضطهاد والحصار، فما زال عشقهم لخط الدفاع هو العشق الأهم الذي يعيشون لأجله، وهذا يريد منه التأكيد على التمسّك بهذا الخط المقاومة للعدو مهما كانت الضغوطات. أما المفصل الأخير من كلامه فهو أيضاً يحمل الكثير من الدلالات والمعاني  عندما يتابع قوله : “وفي الليل قلت لزوجتي أنّه كان يتعيّن عليكم، إن أردتم استرداده، أن تستردّوا البيت، ويافا، ونحن… الصورة لا تحل مشكلتكم، ولكنها بالنسبة لنا جسركم إلينا، وجسرنا إليكم”. (12)

لا بد من التوقّف هنا عند كلمة “كان يتعيّن عليكم”،  أي أن هناك أمراً كان يجب أن تقوموا به وقد تخلّفتم عنه، فأنتم لم تتصرفوا كما يجب، لم تؤدّوا الفعل المقاوم حقّه، ولكنكم إذا اتخذتم هذه الخطوة تستطيعون عندها استرداد كل الحقوق، فاستردادك للصورة الآن لن يجدي نفعاً، اسعَ أنت ومن معك لتحرير كامل الأرض، قبل أن تفكر باسترداد أي شيء. فالدعوة واضحة هنا من قبل الكاتب على لسان هذا الرجل، دعوة إلى المقاومة حتى التمكن من استرداد كل ما سلب، وليؤكّد هذه الدعوة قال سعيد لزوجته: “فارس اللبدة، لو تعرفين… أنه الآن يحمل السلاح” (13)

وهكذا يؤكّد الكاتب رؤيته للصراع مع الصهاينة، الحل هنا هو دعوة لحمل السلاح، ومقارعة السلاح بالسلاح حتى تحرير كامل الأرض.

وهذا ما سيتكرّر تأكيده ثانية في ما يجري مع سعيد.

وبقي أن يعود الولد “الشاب خلدون”  المفقود ليتعرّفوا على فلذة كبدهم التي ضاعت منهم طوال هذه السنين.

ويعود “خلدون” إلى المنزل وهما ينتظرانه على أحر من الجمر، لكن الذي عاد إلى المنزل لم يكن “خلدون” بل “دوف الصهيوني” الذي تشرب العقيدة الصهيونية حتى الثمالة، فماذا سيعني له هذان الأبوان العربيان؟

عاد “دوف” بالبذلة العسكرية التي طالما روّعت الفلسطينيين وأبكتهم، فكان لعودته بالبذلة العسكرية رمزية كبيرة، وهذه الرمزية تدلّ على أن هذا الشاب”دوف” منخرط في عملية الصراع مع الفلسطينيين إلى أبعد حدود، فقد عاد بكل صلافة وتحجّر وتحدٍّ، وكل ما يعنيه هو ما تربّى عليه من الحقد تجاه العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص. جذوره كعربي ومولود من أب وأم فلسطينيين لا يعنيه البتة، ولا يريد حتى التعرّف إلى هذه الجذور، فهو صهيوني تربى على أيدي الصهاينة.

تبدو هذه المواجهة من أصعب ما يكون، لكن الكاتب ألبسها وجهها الحقيقي، عندما أكّد من خلال الحوار الذي دار بين سعيد و”دوف” الذي كان يجب أن يكون ابنه بأن الإنسان هو القضية، وما يحمل من فكر، وما يتشرب من تربية، ولا يهم إذا كان ولد من أب عربي أو أجنبي، وهذا ما حدث مع سعيد وابنه.

“وهنا يضعنا الكاتب غسان كنفاني أمام مفارقة تاريخية جارحة، أن الحق لو ترك قد يتحول من قوة دفاع إلى أساليب تدمير لو سقطت بيد العدو في غفلة منا. عندها تصبح مسألة استعادة حقوقنا مواجهة مع أنفسنا قبل أن تكون صداماً مع العدو.” (14)

فسعيد بعد هذه المواجهة سيعيد حساباته، ويبدل نظرته لما كان يحيا فيه، ويتأكد من أمور لم تكن حتى الآن قد وضحت لديه، وستتغير رؤيته للماضي والحاضر والمستقبل،  فقد أصبح قادراً على اتخاذ القرار المصيري الذي كان يهرب منه، وهو حتمية المواجهة والمقاومة.

“إن خلدون الماضي الطفل ودوف الجندي الإسرائيلي الحاضر، رمزية عن مقدرة الاحتلال في تغيير الملامح في شكل المكان وروح الإنسان، وصنعة الاحتلال ليست التدمير ومحو الذاكرة  بل إعادة صياغة الوعي وهذا هو الخطر الأكبر الذي يحذرنا منه غسان كنفاني في هذه الرواية الخالدة.” (15)

ولعل أهم ما توصّل إليه الكاتب في هذه الرواية هو أنه عندما صدم سعيد بصلافة ابنه المفقود “دوف” أحسّ بخطئه عندما منع ابنه “خالد” من الإلتحاق بالمقاومة الفدائية التي تسعى إلى تحرير الأرض، خوفاً عليه من الموت، لكنه يدرك الآن أن هذا الموت لن يكون موتاً بل شهادة عزيزة تستعيد الوطن من هؤلاء المجرمين المستشرسين في صراعهم على هذه الأرض، تلك المواجهة  دفعته ليقول لزوجته وهم يغادرون: “أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. أثناء غيابنا”! (16)  ومعارضته لالتحاق إبنه بركب الفدائيين المقاومين لهذا الإحتلال تحوّلت إلى أمنية عزيزة.

هنا تبدو رؤية الكاتب واضحة بكل جلاء ولا لبس فيها، فما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة، هذه هي القناعة التي أراد أن يوصلها الروائي غسان كنفاني إلى كل من يقرأ روايته، إلى كل من يهتم بأمر العودة، لتكون العودة شريفة وعزيزة وليست مليئة بالذل والمهانة.

فبالمقاومة وحدها تسترد الأرض والدور، وبالمقاومة وحدها يسترد الفلسطيني كرامته وعزّته.

المصادر:

1 ـ غلاف رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”

2 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 12

3 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 15

4 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 21

5 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 24

6 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 25

7 ـ  رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 26

8 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 27

9 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 30

10 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 48

11 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص.55

12 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 57

13 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” ص. 57 ـ 58

14 ـ نجمي عبدالمجيد ـ رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) استعادة الماضي المسلوب في الحاضر المنكسرـ ـ موقع 14 أوكتوبر.

15 ـ نجمي عبدالمجيد ـ رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) استعادة الماضي المسلوب في الحاضر المنكسرـ ـ موقع 14 أوكتوبر.

16 ـ رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” 76 .

عدد الزوار:50093
شارك في النقاش

12 تعليق

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.