بقلم ماجدة ريا
قالوا لها: “عليك اجتياز هذا البحر، إذا أردت الإنتقال إلى المكان الآخر، حيث ترغبين أن تكوني، عليك أن تشرّعي مراكبك وأن تتوجّهي إلى أقرب ميناء، هناك سترين من سيستقبلك ويساعدك في الإنضمام إلى ذلك العالم وإلى هؤلاء الناس… لكن انتبهي، عليك أن تتأهبي جيداً، فهؤلاء أشخاص لهم عالمهم، لهم حياتهم، يأكلون الحبر وينامون على الورق”.
لا زال صدى الصوت يتردد في أذنيها كما لو أنه كان آتياً من ذلك المكان البعيد، يدعوها إليه حينما ألفت نفسها أمام ذلك البحر.
كانت تسمع تلاطم أمواجه وهي تتقدم نحوه بعزم وثبات، إنها تنذر بمعارك طاحنة، وكأن الموج يتقاتل مع بعضه، وكل موجة تريد أن تكون هي الأعلى، تتلاحق الأمواج واحدة تلو الأخرى، فهذه تعلو تلك، وهذه تسرع هرباً وتلك تتأخر…. وهكذا يعلو الضجيج في هذا المكان الصاخب.
ران في خيالها منظر البحر الهادىء، ملتقى الرومانسيين الذين يحلمون مع كل غروب، ويقطفون من رنيم صداه أشعارهم وحكاياتهم، “لا ليس ذاك البحر هو ما أرى!”
إنه بحر مترع بالمشاكل، حَبِلٌ بأثقال أبت إلاّ أن ترمي نفسها فيه، فضجّ من ثقلها حتى باتت أمواجه متلاطمة بهذا الشكل المخيف.
هل ستركب زورقها الصغير وتسير في هذا البحر؟
الجو مشحون، ملبّد بالعواصف، كأنه لا يكفيها منظر الأمواج المتلاطمة!
أمعنت النظر، حتى اخترق نظرها لبّه، فتراءت لها دوّاماته بأحجامها المتعدّدة، فهذه كبيرة وقطرها واسع جداً ترسل عبره دوائر متتالية مولّدة أكبر عدد ممكن من الأمواج، وغيرها أكبر منها وأصغر، وهكذا… الكل يمدّ هذا البحر بمزيد من هذه الأمواج.
بدأت رحلتها، نظرت إلى زورقها، لكم تعبت حتى حصلت عليه! آه ما أروعه! وما أحبّه إليها!
تأمّلت شراعه العالي بألوانه الزاهية الأحمر، الأخضر والأبيض…” لكم أحب هذه الألوان!”، أما خشبه فهو من خشب الأرز المعتّق، المتين..
لكنه يبقى مركباً صغيراً يشقّ طريقه منفرداً وسط هذا الأجاج.
“هل نسيت رفاق الدرب؟! فهناك مراكب كثيرة أمثال مركبك، ليس كل البحر دوّامات! انظري حولك جيداً…”
على جانبي البحر، ظهرت لها الكثير من المراكب الشراعية، كل يقود مركبه، يسير بهدوء، بعيداً عن الدوّامات، والأمواج العاتية، هذه الأمواج التي تبدو مخيفة، إذ تارة ترفع مراكب إلى أعلى، وأخرى تقلب بعضها، فيظهر أصحاب هذه المراكب وهم يصارعون الموج، يرفعون أيديهم إلى الأعلى فلا يرى منها سوى أصابع تتحرّك في تشنّج الصراع!
“يمكن أن أسلك طريقي وسط هؤلاء المراكب، ربما الإتّصال بيني وبين القباطنة الذين يقودونها هو سكون الصمت، إلاّ أنّنا نرى بعضنا… فمراكبهم تبدو كأنوار تضيء صفحة الماء كما النجوم في السماء”.
كانت تتابع رحلتها بهدوء، إذا مرّت بأحدهم تلقي عليه التحية البحرية، وهم أيضاً يرسلون لها الإشارات الضوئية فتمرّ بسلام.
رانت منها التفاتة إلى مركز الصراع، إلى تلك الدوّامات التي ما زالت تدور وتدور، شعرت بأطراف مركبها تهتز، إحدى الدوّامات لامست حدود مسارها، نظرت نحو السماء، إلى قوّة الله المطلقة، ثبّتت دفة المقود، صوّبت نحو المسار الصحيح، وركّزت بصرها نحو النجوم التي انتشرت حولها لتستعين بنورها، وانطلقت نحوها، مخلّفة وراءها خطوط الدوّامات.
كان لا بد لها أن تمرّ أثناء طريقها على تلك الجزيرة، منظرها من بعيد يجذب الناظر إليها، لكنها تبدو كما لو كانت جزيرة من الخيال.
اقتربت منها، لا زالت تدنو، وتدنو.. حتى لاحت لها ملامحها بشكل واضح، الناس فيها مجتمعون في حلقات دائرية واسعة وقد أضرمت النار وسط كل واحدة منها، كما في سهرات النار الكشفية، وكل حلقة كان لها موّالها… فهذه تهتم بالحكايات، وأخرى بالخرافات، وغيرها بأي أمر يهمّها من أمور الحياة.. وهكذا، كانت كل حلقة تدور في فلك اهتماماتها…
وبينما هي غارقة في تأمّلاتها، وإذا بحرّاس الشاطىء يقتربون منها، ومن خلال الإشارة فهمت أنه ما دامت قد وصلت إلى هنا، فعليها أن تؤدّي التحية لملك الجزيرة. ألقت مرساتها على الشاطىء، وسارت معهم بقامة شامخة ورأس مرفوع.
وصلت إلى القصر الملكي، الحراس اصطفّوا على جانبي الممر، وحاشية الملك يجلسون في الديوان حوله، وعندما دخلت ألقت التحية على الجميع بطريقتها!
التفت إليها الحرّاس باستغراب، ولاحظت ذلك، لكن ما لفتها أكثر هو الشرر الذي تطاير من عيني هذا الملك حتى بدتا كأنهما نجمتان تلمعان، وشكله الذي بدا أسطورياً بالصولجان المذهب الذي يحمله بيده، والتاج الذهبي الكبير الذي على رأسه المكسو بشعر طويل!
هل يجب أن تخاف؟ شعرت بأن قدميها ثابتتين، وأن نظراتها تخترق عنان السماء.
صرخ بها أحد الحرّاس: “جرت العادة بالسجود أمام الملك، خاصة الدخلاء!”
التفتت إليه، ثم أعادت نظرها نحو الملك وقالت بهدوء: “وأنا لا أسجد إلاّ لله، أما السلام فأؤدّيه بطريقتي.”
“إن جزاء من يخالف عاداتنا هو الموت.”
“والموت هو بيد الله سبحانه وتعالى، وليس بيد البشر، فإن كان قُدّر لعمري أن ينتهي هنا وهذا أمر لله وحده أن يقضيه فأنا أرضى بقضائه.”
“ألا تخافين الموت؟!!”
“الخوف من الموت لا يمنع الموت عنا إذا جاءنا”
كل هذا يجري على مرأى من الملك وحاشيته، رفع الحارس السيف في وجهها، لكن الملك فاجأه بقوله: “دعها رضيت بسلامها.”
“سيدي الملك….”
“لا تقل شيئاً! جهّزوا لها مركبين ليرافقاها.”
“شكراً أيها الملك “
قالت، ثم نظرت نحو الحراس تسأل عن سبب إرسال المركبين معها فأجاباها:
– “إن المنطقة التي ستعبرينها كي تصلي إلى شاطىء الأمان لا ينجو منها إلا من كان معه مرافقة من جزيرتنا.. وإكراماً لشجاعتك سيرسل ملكنا معك مركبين بدلاً من الواحد كي تكوني في أمان”.
ابتسمت ابتسامة الظفر وسلّمت على طريقتها، ومضت إلى مركبها، وسارت ترافقها هدية الملك المزدوجة، واتجهت نحو بر الأمان.
عدد الزوار:2600